أفق السياسة في الأزمة الأوكرانية
تُنهي الحرب في أوكرانيا شهرها السادس عشر ومازال أفق الحل السياسي شبه معدوم، لأن الأطراف المنخرطة فيها بشكل مباشر - وحتى غير مباشر- غير مستعدة، كما هو جلي، للتسوية السياسية على الأقل في هذا الوقت، برغم الدعوات والمبادرات الكثيرة لذلك. فمنذ اندلاع الحرب في 24 فبراير 2022 لم تتوقف الدعوات من أجل وقف إطلاق النار والبدء في مفاوضات لإيجاد حل سياسي لهذا الصراع. كما قُدّمت مبادرات فردية وجماعية عدة، بينما دعا مجلس الأمن في بيانات أكثر من مرة إلى إنهاء الحرب. وقد قامت دول عدة، ومنها على سبيل المثال تركيا، بجهود فردية.
كما قدمت الصين مبادرة لم ترَ النور، وحتى بنودها لم تزل غير معروفة، بينما قام القادة الأفارقة بمحاولة جماعية للوساطة كانت نتائجها في الحقيقة جلية قبل أن يقابل ممثلوها من سبع دول زعيمي البلدين، حيث عكست التصريحات قبل وخلال وبعد اللقاءات ليس فقط تحفظاً، بل نوعاً من الرفض بطريقة دبلوماسية. وحتى الفاتيكان لم يغب هو الآخر، حيث حاول التقريب بين وجهات النظر.
ومع كل ذلك، فإن تلك الجهود لم تحقق - بعدُ - أيَّ اختراق أو أيَّ تقدم يذكر، ويكاد يكون حصاد كل الدعوات والمبادرات هو اتفاق الحبوب، الذي يبدو أنه سينتهي قريباً، في ظل إعلان روسيا أنها على الأرجح لن تجدده كما هو مقرر الشهر المقبل، بسبب ما قالت إنه عدم اكتراث غربي، وحتى أممي بمطالبها أو مراعاة ظروفها. هذا بالطبع لا يقلل من أهمية ما بُذل، وهو في الحقيقة يعكس مدى القلق العالمي من استمرار الحرب، وذلك بسبب تداعياتها التي طالت الجميع دون استثناء، والخشية من توسع نطاقها جغرافياً أو حتى نوعياً، في ظل الحديث المتكرر عن الأسلحة النووية، وإمكانية استخدامها في ظل ظروف أو معطيات محددة.
والواقع أن الحل السياسي يبدو بالفعل بعيد المنال على الأقل في المدى المنظور، وذلك في ظل التصعيد المتبادل، وعدم تزحزح أي طرف عن موقفه، حيث يبدو الصراع وكأنه صفريٌّ. والمشكلة من الناحية الواقعية أن أيّاً من الفريقين لم يحقق بعدُ تقدماً حاسماً أو اختراقاً كبيراً يمكن أن يفرض فكرة الحلول الوسطى.
ويبدو جلياً أيضاً أن التصعيد الحالي في ظل استمرار الهجوم الأوكراني المضاد، وتأكيد الغرب على مواصلة دعم أوكرانيا بكل ما أمكن، يهدف إلى إحداث خلل في ميزان القوى لصالح أوكرانيا، أو على الأقل ضمان التوازن مع القوات الروسية، بحيث تُحرم موسكو من إحراز نصر كبير. وبالمقابل، تؤكد روسيا أنها مصممة على رد الهجوم، بل والمضيّ قدماً في تحقيق أهدافها، مما لا تزال تطلق عليه «العملية العسكرية»، أملاً في إجبار قادة كييف على الاستسلام لشروط أو بعض شروط موسكو القاسية، بما فيها التنازل عن أراضٍ والتعهد بعدم الانضمام إلى حلف الناتو.
وفي ظل هذا المشهد السياسي الشائك، والتصعيد العسكري المتواصل، يجري الحديث عن مبادرة أوروبية لحل الأزمة سياسياً، حيث سيدعو الاتحاد الأوروبي إلى مؤتمر سلام قُبيل انعقاد قمة «الناتو» الشهر المقبل، يُدعى له الكثير من قادة دول العالم، بمن فيهم رؤساء الصين والهند وبعض الدول العربية والأفريقية، وذلك بهدف حشد الدعم الدولي للمبادرة الأوكرانية ذات البنود العشرة، حيث تحدثت مصادر أن الأوروبيين يعملون الآن مع الأوكرانيين على تعديلها، بما يضمن دعماً دولياً أكبر لها، وزيادة الضغط على روسيا.
لكن، هل يمكن لمثل هذه المبادرة أن تنجح ومنبعها تجمُّع متحيز بشكل صريح لطرف دون آخر؟! نتمنى ذلك، ولكننا نشك كما يشك الكثيرون. ويبقى الأمل معقوداً على الجهود التي تقوم بها دول محايدة، وفي مقدمتها الوساطة الإماراتية، التي تعمل بدبلوماسية هادئة بعيداً عن الأضواء، ويؤمل أن يكون لها تأثير على طرفي الصراع، بحكم موقفها المحايد منذ البداية، وعلاقتها الحسنة مع أطراف النزاع، وجهودها الحثيثة داخل أورقة مجلس الأمن.
*باحث رئيسي مدير إدارة النشر العلمي- مركز تريندز للبحوث والاستشارات